فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْت لَمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ».
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْت بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ: مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِك؟ قُلْت: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً قَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك؛ فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعَنِي، فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، قُلْت: وَضَعَ شَطْرَهَا فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْته، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، فَقَالَ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَقُلْت: قَدْ اسْتَحْيَيْت مِنْ رَبِّي قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْت الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ».
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ» وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ بِطُولِهِ، إلَى أَنْ قَالَ: «ثُمَّ اسْتَيْقَظْت، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ».
قُلْنَا: عَنْهُ أَجْوِبَةٌ؛ مِنْهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ أَنَسٍ، وَكَانَ تَغَيَّرَ بِآخِرَةٍ فَيُعَوَّلُ عَلَى رِوَايَاتِ الْجَمِيعِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْرَاءَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَطَّدَهُ اللَّهُ بِهَا، ثُمَّ أَرَاهُ إيَّاهَا رُؤْيَا عَيْنٍ، كَمَا فَعَلَ بِهِ حِينَ أَرَادَ مُشَافَهَتَهُ بِالْوَحْيِ؛ «أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمَلَكَ فِي الْمَنَامِ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك، وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ» إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقِظَةِ بِمِثْلِ مَا أَرَادَهُ فِي الْمَنَامِ.
وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ أَرَاهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ مَا أَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ تَوْطِيدًا وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ، حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ الْحَالُ فَجْأَةً، فَتُقَاسِي نَفْسُهُ الْكَرِيمَةَ مِنْهَا شِدَّةً، لِعَجْزِ الْقُوَى الْآدَمِيَّةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْهَيْئَةِ الْمَلَكِيَّةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاك إلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}؛ وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ مَا اُفْتُتِنَ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا أَنْكَرَهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ يَخْتَرِقُ السَّمَوَاتِ، وَيَجْلِسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَيُكَلِّمُهُ الرَّبُّ.
المسألة الخامسة:
فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ كَانَ فَرْضُ الصَّلَاةِ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْإِسْرَاءِ صَلَاةَ الْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَيَتَنَفَّلُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ مَكَانًا عَلِيًّا، وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ أَعْدَادَهَا وَصِفَاتِهَا، وَهِيَ:
المسألة السادسة:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، وَصَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ عِنْدَمَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ عِنْدَمَا غَابَ الشَّفَقُ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ ثُمَّ صَلَّى بِي الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، وَصَلَّى بِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَصَلَّى بِي الْمَغْرِبَ حِينَ غَرُبَتْ الشَّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ، وَصَلَّى بِي الْعِشَاءَ حِينَ ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَطْلَعَتْ الشَّمْسُ؟ لَمْ تَطْلُعْ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُك، وَوَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك، وَالْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ».
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي الْحَدِيثِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ، وَبَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ عُلُومٍ، عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مِنْ حَدِيثٍ وَطُرُقِهِ، وَلُغَةٍ وَتَصْرِيفِهَا، وَتَوْحِيدٍ وَعَقْلِيَّاتٍ، وَعِبَادَاتٍ وَآدَابٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيمَا نَيَّفَ عَلَى ثَلَاثِينَ وَرَقَةً، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ، فَفِيهِ الشِّفَاءُ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ:
وَهِيَ قَوْلُهُ: {أَمَرْنَا}: فِيهَا مِنْ الْقِرَاءَاتِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: أَمَرْنَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ.
الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: بِتَشْدِيدِهَا.
الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: آمَرْنَا بِمَدٍّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ.
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَهِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَمَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَدْلِ، فَخَالَفُوا، فَفَسَقُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَهَلَكُوا بِالْكَلِمَةِ السَّابِقَةِ الْحَاقَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ: فَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَثَّرْنَاهُمْ، وَالْكَثْرَةُ إلَى التَّخْلِيطِ أَقْرَبُ عَادَةً.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْمَدِّ فِي الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَالْأَعْرَجِ، وَخَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ.
وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْكَثْرَةُ؛ فَإِنَّ أَفْعَلَ وَفَعَّلَ يُنْظَرَانِ فِي التَّصْرِيفِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْإِمَارَةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ مِنْ جَعْلِهِمْ وُلَاةً فَيَلْزَمُهُمْ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَيُقَصِّرُونَ فِيهِ فَيَهْلِكُونَ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا وَعِيَالًا وَخَادِمًا فَهُوَ مَلَكٌ وَأَمِيرٌ، فَإِذَا صَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا وَآثَرُوهَا عَلَى الْآخِرَةِ فَهَلَكُوا، وَمِنْهُ الْأَثَرُ: {خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ}: أَيْ كَثِيرَةُ النَّتَاجِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا}.
أَيْ عَظِيمًا.
وَالْقَوْلُ فِيهَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مُتَقَارِبٌ مُتَدَاخِلٌ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ.
وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ هَذَا الْفِسْقُ وَأَعْظَمُهُ فِي الْمُخَالَفَةِ الْكُفْرُ أَوْ الْبِدْعَةُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَصَوْا وَكَفَرُوا، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَأَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}.
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُتَوَعَّدٌ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ آيَةَ الشُّورَى مُطْلَقَةٌ فِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ الْوَعْدُ بِذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُعْطَى لِكُلِّ مُرِيدٍ، لِقَوْلِهِ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} الْآيَةَ. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: نزه نفسه بقوله: {سبحان} عن الاتحاد الكلي، ولكن أخبر عن مقام وصول حبيبه. فقوله: {أسرى} إشارة إلى الجذبة الخفية عن الأغيار، وقوله: {بعبده} إشارة إلى مقام تصحيح نسبة العبدية التي هي آخر مقامات السالكين، وقوله: {ليلًا} رمز إلى أن ذلك الجذب كاد يكون خفيًا عن المجذوب إذا كان ذاهلًا عن أنانيته.
وقوله: {من المسجد الحرام} هو مقام يحرم فيه الالتفات إلى ما سوى الله. {إلى المسجد الأقصى} هو مقام الفناء في الله {الذي باركنا حوله} بالبقاء بالله {لنريه من آياتنا} التي لم تسمع إذن ولا أبصرت عين {إنه هو السميع البصير} فلا يصل أحد إليه إلا إذا سمع به وأبصر به. هذا ما خطر ببال هذا الضعيف في تأويل هذه الآية فإن كان صوابًا فمن فضل الله وعطائه، وإلا فمني ومن الشيطان {فجاسوا خلال الديار} الجسدانية بالقتل وفك التركيب وخلال الديار المعنوية حين استولت الصفات الذميمة على الخصال الحميدة لتخريب بيت مقدس القلب {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} باستيلاء داود القلب وقتل جالوت النفس {وأمددناكم بأموال} الطاعات {وبنين} الإيمان والإيقان {وإذا جاء وعد الآخرة} حين ارتد عن الطريقة {ليسوؤا} وجوه قلوبكم بحجب سوء أعمالكم {وإن عدتم} إلى الجهل {عدنا} إلى الفضل، أو وإن عدتم إلى الندم عدنا إلى الكرم، أو إن عدتم إلى العبودية عدنا إلى الربوبية، أو إن عدتم إلى التقربات عدنا إلى الجذبات {وجعلنا ليل} البشرية ونهار الروحانية {فمحونا آية الليل} وهي قمر القلب فني في نور العقل حين تطلع شمس شهود الحق وهي آية النهار، فإذا طلع الصباح استغنى عن المصباح {لتبتغوا فضلًا من ربكم} وهو تجلي ذاته وصفاته، وقد اختص الإنسان به من بين المخلوقات. {ولتعلموا} أيام الطلب وحساب الترقي من مقام إلى مقام وكل شيء يحتاج إليه السالك بيناه بالإشارات {من كان يريد العاجلة} فيه أن قلب الإنسان بين أصبعي قهر الرحمن ولطفه وبحسب ذلك يحوّل وجه الى الدنيا حتى يؤل أمره إلى درجات البعد أو يحوّله إلى الآخرة حتى يصل إلى درجات الوصال والله المستعان على ما تصفون. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].
فيه أربع إشارات.
إشارة التقديس سبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان.
وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسمائه وكذا بعدم ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم.
وإشارة الغيب بذكر ضمير الغائب.
وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى، وعن بعض الأكابر لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر غير واحد أن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف، وأصلها الذل والخضوع وحيث أن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية لله تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها، ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] بقوله: إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهمًا بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كمال مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عبدًا محضًا زاهدًا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19] ولما أمر صلى الله عليه وسلم بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نهعتًا إلهيًا أصلًا بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطاني: ما وجدت شيئًا يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت: يا رب بماذا أتقرب إليه؟ قال: تقرب إلى بما ليس لي قلت: يا رب وما الذي ليس لك؟ قال: الذلة والافتقار.
وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من الله تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لإله سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان لله تعالى و{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] وهما كذلك وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنكَ} وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال: إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه صلى الله عليه وسلم أسرى به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال: إن ذلك إلى المحدد ثم ألقى البدن هناك وقد تقدم ذلك، وفي أسرار القرآن أن عليه الصلاة والسلام أسرى به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه صلى الله عليه وسلم حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي.
ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وقد ذكروا أن الجميع الوارثين معراجًا إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنات لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سموات معنى لا مغنى، وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال، وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم، ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلًا يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسورًا على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس سره بالتركية مع شرح بعض مغلقاته ولم يكنمن خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلى والعياذ بالله تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونقل عن الشيخ قدس سره أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة، وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن أسرًا آته عليه الصلاة والسلام كان أربعًا وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه، وقد صرحوا أن الأول من خصائصه صلى الله عليه وسلم.